في قلب الجزائر، هذا البلد الذي يُخفي في باطنه ثروات لا تُعد ولا تُحصى، يستيقظ كنز نائم ظلّ دهورًا مدفونًا في أعماق الأرض، حتى جاء الوقت الذي يُعلن فيه عن نفسه، ليكون أحد أعمدة الاقتصاد الجديد لهذا البلد الشاسع... منجم وادي أميزور.
على بُعد اثني عشر كيلومترًا فقط من مدينة بجاية الساحلية، وسط جبال الأطلس التلي، يمتد هذا المنجم الهائل على مساحة تبلغ 243 هكتارًا، وهو ليس مجرّد موقع لاستخراج المعادن، بل مشروع استراتيجي ضخم قد يغيّر ملامح الصناعة الجزائرية للأبد. فهنا، بين طبقات الصخور العتيقة، يرقد واحد من أكبر احتياطيات الزنك والرصاص في إفريقيا، وربما في العالم كله.
كنز بقيمة استراتيجية واقتصادية غير مسبوقة!
تشير التقديرات الحديثة إلى أن منجم وادي أميزور يحتوي على احتياطي يناهز 54 مليون طن من الخامات، منها 34 مليون طن قابلة للاستغلال الفوري والإنتاج التجاري. هذه الكميات الضخمة ستُمكّن الجزائر من تصدير 170 ألف طن من الزنك المركز سنويًا، إلى جانب 100 ألف طن من الرصاص المركز، وهي كميات ستدرّ مليارات الدولارات على خزينة الدولة خلال العقدين المقبلين.
الزنك وحده، الذي يُستخدم في صناعات متعددة مثل السيارات، الطائرات، البطاريات، الترصيص، ووقاية المعادن من الصدأ، يُباع عالميًا بأكثر من 20,000 دولار للطن، بينما سعر الرصاص يتجاوز 2,200 دولار للطن. ومع ارتفاع الطلب العالمي على هذين المعدنين، فإن مستقبل هذا المشروع يبدو واعدًا بشكل يفوق كل التوقعات.
مشروع عالمي... بشراكة جزائرية أسترالية
هذا المشروع العملاق لم يكن ليخرج للنور لولا الشراكة القوية بين الجزائر وشركة "Terramin" الأسترالية العملاقة في مجال التعدين. حيث تمتلك الشركة الأسترالية 65% من أسهم المشروع، مقابل 32% لشركة المناجم الجزائرية الحكومية و3% لشركة التنقيب الوطنية، في توازن استراتيجي يحفظ السيادة الجزائرية مع الاستفادة من الخبرة العالمية.
وقد باشرت الشركة بالفعل عمليات الحفر الاستكشافي، بحفر 24 بئرًا اختبارية، وجمع آلاف العينات الصخرية، وتحليلها في أحدث المختبرات، استعدادًا لبدء مرحلة الاستغلال الفعلي قريبًا. وتشير الخطط إلى استكمال تجهيزات الموقع بحلول نهاية 2023، ليبدأ الإنتاج التجاري على نطاق واسع اعتبارًا من 2024.
استثمار ضخم يقدَّر بـ400 مليون دولار
لم يكن من السهل إطلاق هذا المشروع، فقد استلزم الأمر استثمارًا ضخمًا يتجاوز 400 مليون دولار، لتشييد البنى التحتية اللازمة، من طرق ومرافق وسكك حديدية، إلى محطات معالجة المعادن ومراكز تحليل العينات. كما جرى بناء مجمع إداري حديث مزوّد بأحدث التجهيزات في مدينة بجاية، ليكون المقرّ الرئيسي لإدارة المشروع.
ولأهمية هذا الاستثمار، أصدر الوزير الأول أيمن بن عبد الرحمن مرسومًا تنفيذيًا يحمل الرقم 23-320 في سبتمبر 2023، يقضي باعتبار هذا المشروع "منفعة عمومية" ذات طابع استراتيجي، وهو ما يفتح الباب أمام مزيد من الدعم الحكومي والتمويل البنكي وتسهيل الإجراءات الإدارية.
منجم وادي أميزور... قاطرة التنمية الجديدة لمنطقة بجاية
هذا المنجم لا يمثّل مجرد مصدر للعملات الصعبة فحسب، بل يعد ركيزة لتنمية منطقة بجاية والمناطق المحيطة بها. فمن المتوقع أن يوفر المشروع آلاف مناصب العمل المباشرة وغير المباشرة، في مجالات التعدين، النقل، الصيانة، الخدمات، واللوجستيك، وهو ما سيُعيد الحياة الاقتصادية إلى هذه المنطقة الجبلية الجميلة.
كما سيتم تطوير شبكة من الطرق والمرافق الحيوية لربط المنجم بميناء بجاية، لتسهيل تصدير الخامات إلى الأسواق العالمية، خاصة أوروبا وآسيا، مما سيحوّل بجاية إلى منصة لوجستية دولية في غضون سنوات قليلة.
الجزائر... قادم قوي في سوق التعدين العالمي
لم يكن هذا المشروع ليأتي من فراغ، بل جاء نتيجة رؤية استراتيجية تبنّتها الدولة الجزائرية منذ عام 2021، عندما أعلنت الحكومة عن خطة طموحة لتنويع الاقتصاد، وتقليل الاعتماد المفرط على صادرات النفط والغاز، التي ظلت لعقود طويلة مصدر الدخل الرئيسي للدولة.
هذه الخطة، التي تشمل تطوير مناجم عملاقة مثل غار جبيلات (الحديد)، وتالا حمزة (النحاس)، ووادي أميزور (الزنك والرصاص)، تهدف إلى جعل قطاع التعدين مساهمًا رئيسيًا في الناتج القومي، عبر رفع صادرات المعادن وتحويل الجزائر إلى قوة إقليمية في الصناعات المعدنية.
دعم تقني وتكنولوجي غير مسبوق
ما يميّز مشروع وادي أميزور هو الاستعانة بأحدث تقنيات التعدين والاستكشاف الجيولوجي، من صور الأقمار الصناعية إلى الحفر العميق، ومن نمذجة الكمبيوتر ثلاثية الأبعاد إلى التحليل الجيوكيميائي عالي الدقة. كل ذلك بفضل خبرات شركة Great Western Mining الأسترالية، التي يقودها جيولوجيون عالميون، برئاسة مدير جديد يمتلك 18 عامًا من الخبرة في بريطانيا، ليُشرف على تنفيذ هذا المشروع وفق أعلى المعايير الدولية.
وقد تم مؤخرًا تعيين دومينيك بترونز كمدير فني، وهو جيولوجي عالمي عمل في مشاريع إفريقيا وأوروبا، بل وحتى في التنقيب عن المياه لصالح منظمات دولية. وهو اليوم في مقدمة فريق العمل الذي يقود استغلال هذا المنجم العملاق.
آفاق واعدة... فهل تتحقق الطفرة المنتظرة؟
يُجمع الخبراء أن منجم وادي أميزور يحمل في طيّاته إمكانيات هائلة لتحريك عجلة الاقتصاد الجزائري، ليس فقط عبر الصادرات المباشرة، بل أيضًا عبر إنشاء صناعات تحويلية محلية، مثل مصانع صهر وتكرير المعادن، ومصانع إنتاج بطاريات الزنك، التي يمكن أن تجعل من الجزائر مركزًا صناعيًا رائدًا في شمال إفريقيا.
وإذا نجحت الجزائر في استغلال هذه الثروة بشكل متكامل، كما فعلت دول مثل جنوب إفريقيا وأستراليا، فإنها قد تنجح في تجاوز تقلبات أسواق النفط، والدخول إلى عصر الاقتصاد المتنوّع القائم على الصناعة والمعرفة.
الأسئلة التي يطرحها الجميع...
رغم هذه الصورة المشرقة، يظل السؤال الحاسم: هل ستتمكن الجزائر من استغلال هذا المنجم بالشكل الأمثل؟ هل سيؤدي منجم وادي أميزور فعلًا إلى إحداث الثورة الصناعية التي تحتاجها البلاد بشدة؟ أم أن العراقيل البيروقراطية، ونقص الكفاءات المحلية، قد تعرقل هذا المشروع كما حدث في مشاريع جزائرية سابقة؟
الإجابة، كما يؤكد الخبراء، تعتمد على مدى جدية الحكومة في تسهيل إجراءات الاستثمار، وتكوين الكفاءات الجزائرية القادرة على قيادة هذه المشاريع، وعدم الاكتفاء بالدور الثانوي أمام الشريك الأجنبي.
✅ اشترك بالقناة وفعل زر الجرس ليصلك كل جديد
✅ اترك لنا رأيك في التعليقات... نقرأها جميعًا!
✅ القادم سيكون أكثر إثارة وتشويقًا بإذن الله!