الجزائر وسوخوي 57
كيف وُلد مشروع "سوخوي 57"؟
في أواخر السبعينيات، كان العالم يعيش ذروة الحرب الباردة. التوتر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بلغ مداه، وسباق التسلح الجوي كان يحتدم بكل شراسة. في خضمّ هذه الأجواء، انطلقت فكرة طموحة داخل دوائر القرار العسكري السوفيتي: تصميم مقاتلة من الجيل الخامس، توازي أو تتفوق على النماذج الأمريكية المتطورة مثل F-22 Raptor. هكذا، وُلد مشروع "سوخوي 57" عام 1979، كجزء من رؤية استراتيجية تهدف إلى ضمان تفوق جوي في المستقبل. لكن الطموح السوفيتي اصطدم بواقع سياسي واقتصادي قاسٍ، إذ شهد العالم في عام 1991 انهيار الاتحاد السوفيتي، فتوقفت عجلة المشروع مؤقتًا، وبدت الطائرة المنتظرة وكأنها ستبقى حبرًا على ورق. إلا أن روسيا، وبعد عقد من الزمن، وتحديدًا في عام 2001، قررت أن تُعيد إحياء الحلم. وفي خطوة جسّدت روح التحدي، أعادت الكرملين فتح ملف المشروع، ليبدأ فصل جديد من الأبحاث والاختبارات الدقيقة التي استمرت سنوات. وفي عام 2010، حلّق أول نموذج تجريبي من "سوخوي 57" في سماء روسيا، معلنًا ولادة جيل جديد من المقاتلات الشبحية. ومنذ تلك اللحظة، انطلق قطار التطوير دون توقف، حتى وصلنا إلى النسخة الحالية التي تُعدّ من أكثر المقاتلات تقدمًا على مستوى العالم. روسيا لم تدخر جهدًا ولا مالًا. أكثر من 8 مليارات دولار تم استثمارها في تطوير هذه الطائرة، مرورًا بمراحل دقيقة من تحديث المحركات، وتعزيز أنظمة التخفي، ودمج أحدث تكنولوجيا إلكترونيات الطيران، لتخرج "سوخوي 57" في النهاية كمزيج مثالي من القوة، والذكاء، والسرعة الشبحيّة. لكن، ومع كل هذه القدرات الهائلة، تطرح هذه الحقيقة نفسها بقوة: طائرة بهذه التعقيدات، وبهذا الاستثمار الضخم... هل من السهل تشغيلها؟ وهل كل من يشتريها يستطيع استخدامها بكفاءة؟
هل يمكن تحمّل تشغيل "سوخوي 57"؟
وراء كل طائرة حربية متطورة، توجد أرقام صادمة لا يراها سوى من يقف خلف الكواليس: تكاليف تشغيل وصيانة تستهلك جزءًا ضخمًا من ميزانيات الجيوش. وهنا، تبرز الحقيقة التي تُجبر كل دولة راغبة في امتلاك تكنولوجيا فائقة، على التفكير مرتين قبل التوقيع. في حالة "سوخوي 57"، تصل تكلفة التشغيل لكل ساعة طيران واحدة إلى حوالي 30,000 دولار. نعم، مجرد ساعة واحدة في السماء، تعني إنفاق ثلاثين ألف دولار من ميزانية الدفاع. والمثير للانتباه أن هذه التكلفة، رغم ضخامتها، تُعتبر أقل بكثير مقارنة بمنافستها الأمريكية F-35، التي تبلغ تكلفة تشغيلها 44,000 دولار للساعة الواحدة. الفارق هنا ليس مجرد أرقام، بل هو عامل حاسم في اتخاذ قرار الشراء، خاصة بالنسبة للدول التي تسعى للتحديث العسكري دون استنزاف مواردها المالية. ومن هذا المنظور، تُصبح "سوخوي 57" خيارًا أكثر جدوى اقتصادية، يُمكّن الدول الصاعدة من دخول نادي الطيران الشبحـي دون أن تغرق في بحر الديون. لكن التوفير لا يتوقف عند التشغيل فقط. فـالعمر الافتراضي لهذه المقاتلة الروسية يبلغ 35 عامًا، مقارنة بـ25 عامًا فقط لطائرة F-35. أي أن الطائرة الروسية ليست فقط أرخص في التشغيل، بل أيضًا تعيش أطول، وتُوفر مردودًا استراتيجيًا أكبر على المدى الطويل. أما من حيث الصيانة، فتحتاج "سوخوي 57" إلى تدخل تقني بعد كل 150 ساعة طيران، بينما تحتاج F-35 إلى صيانة دورية بعد 120 ساعة فقط. وهذا يعني تقليل عدد مرات التوقف، وخفض التكاليف، وزيادة الجاهزية القتالية. وبالنسبة لسعر الإنتاج، تتراوح تكلفة المقاتلة الروسية بين 100 إلى 120 مليون دولار للوحدة الواحدة، في حين تبلغ تكلفة إنتاج الـ F-35 حوالي 130 مليون دولار. مرة أخرى، تُثبت الأرقام أن "سوخوي 57" ليست مجرد آلة حربية متقدمة، بل أيضًا حل اقتصادي ذكي، يجعلها جذابة بشكل خاص للدول ذات الميزانيات العسكرية المتوسطة أو المحدودة. وهنا يبرز السؤال الكبير: هل تستطيع الجزائر، أو أي دولة نامية، إدارة هذا النوع من الطائرات بكفاءة تامة؟ وهل سيكون الاستثمار في "سو-57" نقلة نوعية، أم عبئًا ثقيلًا يصعب تحمّله؟
أنظمة الرصد والاستشعار في "سوخوي 57"
في عالم الطيران الحربي، لا يكفي أن تكون سريعًا أو شبحيًا فقط، بل يجب أن ترى العدو قبل أن يراك. وهنا، يكمن سرّ التفوق الجوي الحقيقي: من يرصد أولًا، يضرب أولًا... وغالبًا، ينتصر أولًا. "سوخوي 57" تدخل هذا السباق وهي مسلّحة بقدرات استشعار مذهلة، تجعلها واحدة من أكثر الطائرات وعيًا بما يدور في محيطها. في قلب هذه المنظومة، يبرز رادار N036 Byelka، وهو نظام متعدد الوظائف قادر على رصد الأهداف على مسافة تصل إلى 400 كيلومتر—رقم مذهل بكل المقاييس. وللمقارنة، فإن مقاتلة F-35 الأمريكية، وهي من أبرز منافسي "سو-57"، تعتمد على رادار AN/APG-81، الذي يبلغ مداه نحو 300 كيلومتر فقط. هذا الفارق في المدى يمنح المقاتلة الروسية ميزة مبكرة في اكتشاف التهديدات والتعامل معها قبل أن تُرصد هي نفسها. لكن التفوق لا يتوقف عند الرادار. فالسوخوي 57 تعتمد على ستة مستشعرات حرارية إلكترونية موزعة بعناية على هيكل الطائرة، لتغطي الزوايا المحيطة بالكامل. هذه المنظومة تسمح للطائرة برصد الأهداف من جميع الاتجاهات، دون الحاجة إلى الاعتماد الدائم على الرادار. والأهم من ذلك، أن هذه المستشعرات تمنح "سو-57" قدرة قتالية شبه مستقلة حتى في حالات الحرب الإلكترونية، حيث يمكن أن يتعرض الرادار للتشويش أو الإعطاب. ففي تلك اللحظات الحرجة، تستمر الطائرة في كشف العدو والاشتباك معه، دون أن تفقد وعيها التكتيكي. هذه التقنية المتقدمة في الرصد تجعل من "سوخوي 57" خصمًا خطيرًا في ساحة القتال، لا فقط بفضل تسلّحها أو سرعتها، بل لأنها ترى قبل أن تُرى، وتضرب قبل أن تُكتشف.
![]() |
"سوخوي" ضد "ميغ"… من يفوز.
قبل أن تُحلّق "سوخوي 57" في سماء العالم، كان عليها أولًا أن تخوض معركتها الأولى داخل الوطن. في الكواليس العسكرية الروسية، اشتعل تنافس شرس بين عملاقين من عمالقة صناعة الطيران: شركة سوخوي من جهة، وشركة ميغ العريقة من جهة أخرى. كلتاهما سعتا لنيل شرف تصميم مقاتلة الجيل الخامس لروسيا، لكن الرؤى كانت مختلفة جذريًا. شركة "ميغ" قدّمت تصميمًا أرخص من حيث التكلفة، مستندًا إلى تكنولوجيا قائمة بالفعل، لكنها تقليدية نسبيًا. أما "سوخوي"، فاختارت طريقًا أصعب، لكنها آمنت بأنه الطريق الصحيح: تصميم مبتكر بالكامل، يجمع بين الشبحية، المناورة القصوى، والسرعة الخارقة، ليكون قادرًا على منافسة أو التفوق على أي طائرة في العالم. وبعد سنوات من العروض والتجارب والنقاشات، اتخذ الجيش الروسي قراره الحاسم: اختيار مشروع "سوخوي 57". ورغم أن تصميم "سوخوي" كان الأعلى تكلفة، إلا أنه أثبت تفوقًا لا يُضاهى في جميع الاختبارات، خاصة في الأداء الشبحي، والقدرة على المناورة، والسرعة. هذا الاختيار لم يكن مجرد قرار تقني، بل كان رهانًا استراتيجيًا على مستقبل روسيا الجوي. لقد اختارت موسكو أن تدفع أكثر مقابل الحصول على الأفضل، وفتحت بذلك الباب أمام "سو-57" لتُصبح جوهرة سلاح الجو الروسي، وتطمح اليوم إلى أن تغزو أسواق التسليح العالمية، ومن بينها: الجزائر.
كيف تغيّر سوخوي 57 قواعد اللعبة في المنطقة؟
عندما تُقرر دولتان عربيتان امتلاك طائرات شبحية من الجيل الخامس، فإن الأمر لا يكون مجرد صفقة سلاح… بل تحوّل استراتيجي كامل في موازين القوى الإقليمية. اليوم، تتحرك الجزائر ومصر بخطوات واثقة نحو إعادة تشكيل المعادلة العسكرية في شمال إفريقيا. الجزائر، باختيارها لطائرة "سوخوي 57" الروسية، تراهن على مقاتلة تُعتبر من الأكثر تطورًا في العالم. في المقابل، تمتلك مصر الآن الطائرة الصينية "جي 31"، والتي تُعد منافسًا شرسًا للـ F-35 الأمريكية من حيث الشبحية والقدرة على الاشتباك الجوي والبري بكفاءة عالية. وجود هذا النوع من الطائرات المتقدمة لدى قوتين عربيتين يُمثل قفزة نوعية في الردع الدفاعي العربي، لا باعتبارهما خصمين محتملين، بل شريكين استراتيجيين في حماية أمن المنطقة. الـ J-31 الصينية تتميز بسرعة تصل إلى 1.8 ماخ، ومدى عمليات يبلغ 2000 كيلومتر، مع قدرات عالية في المناورة والتخفي، تجعلها عنصرًا حاسمًا في أي سيناريو قتالي. وفي الجانب الآخر، تُقدم "سوخوي 57" سرعة أكبر، مدى أطول، وأنظمة تسليح أكثر تطورًا، ما يمنح الجزائر اليد الطولى في المواجهات الجوية البعيدة المدى. لكن الأهم، هو أن امتلاك هذه الطائرات لا يعني فقط تعزيز قوة الردع، بل يُوجّه رسالة واضحة لأي أطراف أجنبية تفكر في فرض نفوذها العسكري على المنطقة: "السماء لم تعد مفتوحة لكم". في المغرب، لا تمر هذه التطورات بصمت. فالمملكة تمتلك بالفعل أسطولًا من مقاتلات F-16 فايبر المتقدمة، وتسعى الآن إما للحصول على طائرات F-35 الأمريكية أو عقد شراكات جديدة مع فرنسا لتحديث قدراتها الجوية، في محاولة لإبقاء التوازن العسكري مع الجزائر ومصر. أما دول مثل تونس وليبيا، فمن غير المتوقع دخولها حاليًا في سباق تسليح مشابه، لكن من المرجّح أن تُركّز على تعزيز أنظمة الدفاع الجوي، تحسبًا لأي تطورات مفاجئة. على الساحة الدولية، تتابع الولايات المتحدة وفرنسا هذا التغيّر بدقة. ومع تزايد اعتماد الدول العربية على التنوع في مصادر التسليح، وخصوصًا من الصين وروسيا، أصبح من الواضح أن المنطقة تتجه نحو استقلالية استراتيجية جديدة، قد تُغيّر ملامح النفوذ الغربي كما عرفناه لعقود. من غير المستبعد أن نشهد خلال الفترة القادمة عروض تسليح جديدة، ومبادرات دبلوماسية نشطة من القوى الكبرى، في محاولة لاحتواء التحوّلات وضمان عدم خروج ميزان القوى عن السيطرة.
مستقبل القوات الجوية الجزائرية
امتلاك مقاتلة سوخوي 57 ليس مجرد إضافة جديدة لقوات الجو الجزائرية، بل هو تحوّل جذري سيغير قواعد اللعبة في الاستراتيجيات العسكرية للبلاد. الجزائر تمتلك اليوم أسطولًا قويًا متنوعًا يضم طائرات مثل سوخوي 30، ميغ 29، وسوخوي 24، لكن دخول "سوخوي 57" يضيف بُعدًا استراتيجيًا جديدًا لا يمكن تجاهله. هذه الطائرة الشبحية ليست مجرد طائرة هجومية تقليدية، بل تمتلك قدرات متقدمة تسمح لها بتنفيذ مهام الاستطلاع الجوي العميق، بفضل أنظمة الاستشعار والرادارات المتطورة التي تتيح لها رصد الأهداف من مسافات بعيدة وفي ظروف معقدة. لكن لتحقيق أقصى استفادة من هذا السلاح الفريد، تحتاج الجزائر إلى تنسيق وتكامل تام بين "سوخوي 57" وباقي أسطولها. بمعنى عملي، ستتولى "سوخوي 57" مهام التسلل والهجوم العميق خلف خطوط العدو، بينما تحافظ "سوخوي 30" على السيطرة الجوية، ويُخصص دور الدفاع الجوي قصير المدى لطائرات "ميغ 29". إلى جانب ذلك، لابد من الاستثمار في تطوير أنظمة القيادة والسيطرة، لضمان تواصل مستمر وفوري بين الطائرات المختلفة، وتبادل المعلومات الحية باستخدام أحدث تكنولوجيا الشبكات العسكرية. في ظل هذا التحدي، يصبح من الضروري أيضًا تعزيز الدفاعات الجوية ضد الطائرات الشبحية الحديثة، خاصة مع سعي المغرب للحصول على طائرات F-35 المتطورة. كما أن التعاون العسكري بين الجزائر وروسيا سيكون حجر الزاوية في هذا المشروع، حيث ستحتاج الجزائر إلى برامج تدريب متقدمة للطيارين والمهندسين والفنيين، لضمان تشغيل وصيانة "سوخوي 57" بكفاءة عالية على المدى الطويل. وجود هذه الطائرة الفريدة في ترسانة الجزائر لا يجعلها فقط من أقوى القوات الجوية في شمال إفريقيا، بل سيدفع الدول المجاورة إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الدفاعية وربما يشعل سباق تسليح جديد في المنطقة. "سوخوي 57" ليست مجرد طائرة؛ إنها نقطة تحول حقيقية في ميزان القوى الجوي الجزائري، وستكون محور التحدي والتفوق العسكري في المنطقة لسنوات طويلة قادمة. فما رأيك؟ هل تعتقد أن الجزائر قادرة على الحفاظ على هذا التفوق والريادة؟ شاركنا رأيك في التعليقات. إذا استمتعت بهذه الجولة معاً في عالم الطائرات الشبحية والقوة الجوية الجزائرية
ربط الفيديو على يوتيوب