تواصل الجزائر خطاها الثابتة نحو تحقيق اكتفاء ذاتي في مجال الصناعات الدفاعية، وخاصة في صناعة الطائرات المسيرة (الدرون)، والتي باتت تمثل ركيزة أساسية في تطوير قدرات الجيش الجزائري، ثالث أقوى جيوش العالم العربي. فالطائرات المسيرة الجزائرية ليست مجرد سلاح مستورد، بل تحولت إلى منتج وطني يعتمد على البحث العلمي المحلي، والابتكار، وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، مما يضع الجزائر ضمن نادي الدول المصنعة لهذه التقنية المتطورة في إفريقيا والعالم العربي.
بداية الاهتمام الجزائري بتكنولوجيا الدرون
يعود أول ظهور للطائرات دون طيار في صفوف الجيش الجزائري إلى منتصف التسعينيات، حيث تم استيراد طائرات "دينيل ديناميك سكير 2" من جنوب إفريقيا. ورغم كونها تجربة أولى، فإنها فتحت الباب واسعًا أمام الاهتمام الرسمي الجزائري بهذه التكنولوجيا الواعدة، والتي ستصبح بعد سنوات أحد أعمدة استراتيجية الدفاع الوطني.
في العقدين الماضيين، ركزت الجزائر على بناء برنامج وطني لصناعة الدرونات، بدأ مع طائرة "أمل 401"، تلتها النسخة الأكبر "أمل 702"، بطول 7 أمتار، وقد تم تصنيع هاتين الطائرتين بالكامل داخل الجزائر، وبالتحديد في مركز البحث في التكنولوجيا الصناعية التابع لوزارة التعليم العالي. النجاح المتحقق شجع الباحثين على تصميم جيل ثالث أكثر تطورًا هو "أمل 303"، المتميزة بخفة الوزن ومتانة الهيكل المصنع من الألياف الكربونية والزجاجية، وقدرتها على الإفلات من أنظمة الاستطلاع والرصد.
تطور مذهل بفضل البحث والذكاء الاصطناعي
لم يتوقف الطموح الجزائري عند حدود طائرات "أمل"، بل أطلقت وزارة الدفاع مشروع تطوير طائرات درون متقدمة حملت أسماء "الجزائري 54" و"الجزائري 55"، المخصصة للمهام القتالية والمراقبة على ارتفاعات شاهقة ولمسافات بعيدة. كما برزت طائرة "فجر 10"، أول درون جزائرية 100% بتصميم وتصنيع محلي، بفضل جهود باحثين من جامعة وهران، وهي مخصصة للاستخدام البيئي ولديها قدرة على التحليق 36 ساعة متواصلة على ارتفاع يفوق 7000 متر.
وفي قفزة نوعية، كشفت الجزائر عن طائرة مسيرة جديدة تعمل بالكامل بالذكاء الاصطناعي، طورها الباحث الجزائري نسيم سعد الله خلال أربع سنوات من العمل المتواصل. تعتمد هذه الدرون على اتخاذ قرارات ذاتية أثناء تنفيذ المهام، مما يجعلها فريدة في القارة الإفريقية. وضمن نفس الإطار، يتم حاليًا إنشاء مصنع مصغر لتطوير طائرات درون ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
نسبة إدماج محلي تتجاوز 60%
نجحت الجزائر في تحقيق نسبة إدماج محلي وصلت إلى 60% في صناعة الطائرات المسيرة، مع خطة لرفع هذه النسبة إلى 100% خلال السنوات القادمة، من خلال دعم البحث العلمي، فتح مدارس عليا متخصصة، وتعزيز التعاون بين وزارة الدفاع والجامعات الوطنية.
الجزائر تستورد أحدث الدرونات القتالية من الصين وتركيا
رغم التركيز الكبير على التصنيع المحلي، لم تغفل الجزائر عن استيراد أحدث الطائرات المسيرة القتالية لتعزيز قدرات جيشها. فقد اقتنت 24 طائرة من طراز "وينج لونج 2" الصينية، بقدرة على التحليق لمدة 31 ساعة وتنفيذ هجمات جو-أرض. كما اشترت 5 طائرات "CH-5" الصينية الثقيلة، القادرة على حمل 16 صاروخًا موجهًا والتحليق لأكثر من 30 ساعة.
إلى جانب الصين، لجأت الجزائر إلى تركيا، حيث طلبت 6 طائرات من طراز "أق سنغور" الحديثة، بقدرة على الطيران على ارتفاع 12,000 متر لمدة 40 ساعة متواصلة، مع حمولة تصل إلى 150 كلغ من الذخائر والصواريخ الموجهة.
التفوق في الحرب الإلكترونية
تعمل الجزائر كذلك على تطوير قدراتها في الحرب الإلكترونية، حيث أدخلت نظامًا متطورًا يمكنه كشف رادارات العدو لمسافة تصل إلى 600 كم، مع تعطيل اتصالاته وتشويش موجاته اللاسلكية حتى 300 كم، ما يجعل هذه الطائرات المسيرة جزءًا من منظومة دفاعية وهجومية متكاملة.
مستقبل واعد: التصدير وتوطين الصناعة
تسعى الجزائر حاليًا إلى توطين هذه الصناعة بالكامل، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي وتصدير الطائرات المسيرة إلى دول إفريقية وعربية. وقد أعلنت عن خطط لإطلاق مدرسة عليا لصناعة الطائرات المسيرة، ما يؤكد رغبتها في لعب دور إقليمي رائد في هذا المجال.
تمثل الطائرات المسيرة الجزائرية نموذجًا ناصعًا للطموح الصناعي والتقني الوطني، فهي ليست مجرد سلاح دفاعي بل مشروع متكامل يدعم الاستقلال التكنولوجي، الأمن القومي، والنمو الاقتصادي. ومع دعم الدولة المستمر، يتوقع أن تشهد هذه الصناعة طفرة كبرى تجعل الجزائر مركزًا إقليميًا لتصنيع وتطوير وتصدير الدرونات الذكية في إفريقيا والعالم العربي.