في مشهد اقتصادي فريد من نوعه، تُثبت الجزائر اليوم أنها قادرة على تحويل المستحيل إلى واقع ملموس من خلال نهضة صناعية غير مسبوقة تُعيد إلى الأذهان أمجاد حقبة الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي أسس لرؤية صناعية طموحة في سبعينيات القرن الماضي. هذه النهضة ليست مجرد تحسن مؤقت، بل هي مشروع اقتصادي استراتيجي يعيد تشكيل ملامح الاقتصاد الجزائري ويضعه في مصاف الدول الصناعية الصاعدة.
بين الأمس واليوم: من بومدين إلى تبون
شهدت الجزائر تراجعًا ملحوظًا في قطاعها الصناعي خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث انخفضت مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 5%، مع تراجع حاد في معدلات التشغيل. وكان هذا التراجع ناتجًا عن عوامل متعددة، منها ضعف البنية التحتية الصناعية واعتماد نموذج اقتصادي غير ناجح في دعم الصناعات الثقيلة والمعدنية، إضافة إلى الخصخصة التي أدت إلى فقدان عشرات آلاف الوظائف.
على عكس ذلك، يراهن الرئيس عبد المجيد تبون اليوم على استعادة ودعم القطاع الصناعي بمشاريع ضخمة ورؤية اقتصادية متجددة، حيث يؤكد أن الجزائر تخطت في سنوات قليلة ما لم تستطع دول أخرى تحقيقه خلال عقود.
نهضة صناعية جديدة في عام 2025
انطلقت الجزائر في خطة طموحة لتحقيق استقلال اقتصادي حقيقي عبر تقليل الاعتماد على الواردات، وتعزيز الإنتاج الوطني في مختلف القطاعات الصناعية والزراعية. اتخذت الحكومة خطوات مهمة مثل الانضمام إلى منطقة التجارة الحرة الإفريقية، وتبني استراتيجية اقتصادية جديدة تقوم على دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة والناشئة، بالإضافة إلى تعزيز اقتصاد المعرفة.
وشهدت الجزائر تطورًا ملحوظًا في قطاعات عدة، بدءًا من الصناعات الثقيلة والمناجم، مرورًا بالطاقة المتجددة والزراعة، وانتهاءً بتطوير البنية التحتية للنقل. هذا بالإضافة إلى خطوات رائدة في رقمنة الاقتصاد بهدف تحسين الفعالية التنظيمية وتعزيز اتخاذ القرار.
إنجازات ملموسة وأرقام قياسية
بحلول نهاية 2023، بلغت احتياطات الجزائر من العملة الصعبة نحو 73 مليار دولار، وارتفع معدل النمو الاقتصادي إلى 5.3%، مع تراجع كبير في الدين الخارجي ليصل إلى صفر تقريبًا، ما يعكس تحسنًا كبيرًا في مؤشرات الاقتصاد الكلي.
في مجال المشاريع الناشئة، تصدرت الجزائر المشهد الإفريقي حيث أصبحت تحتل المركز السادس على القارة في عدد المؤسسات الناشئة والمشاريع المبتكرة، بقيادة جيل شاب من رواد الأعمال.
في قطاع الطاقة، أطلقت الجزائر مشروع "سولار 1000" لتوليد 2000 ميجاواط من الكهرباء عبر الألواح الشمسية المصنّعة محليًا، بالإضافة إلى توسيع مشاريع الطاقة المتجددة التي تغطي نسبة كبيرة من احتياجات الصناعات الوطنية.
أما في قطاع التعدين، فتتقدم مشاريع ضخمة مثل مصنع معالجة خام الحديد في غار جبيلات، الذي يُعد الأكبر منذ الاستقلال، ومصنع الصلب في بشار بقيمة استثمارية تفوق مليار دولار، مما يعزز مكانة الجزائر في السوق الإقليمية والعالمية.
الزراعة والموارد البحرية: الأمن الغذائي في قلب الأولويات
أطلقت الجزائر مشاريع زراعية ضخمة في قلب الصحراء، مع تأسيس أكثر من 42 ألف مستثمرة فلاحية لتعزيز الاكتفاء الذاتي الغذائي. كما شجعت الاستثمار في الثروة البحرية عبر استزراع الأسماك، ما يفتح آفاقًا جديدة للتنمية المستدامة.
تحلية المياه والنقل: مشاريع استراتيجية لدعم التنمية
في مجال الأمن المائي، باتت الجزائر في مقدمة الدول الأفريقية والعربية في تحلية مياه البحر، مع إنشاء محطات حديثة في خمس ولايات، ما يضمن توفير مياه الشرب بانتظام لسكان المناطق الشمالية.
كما تتعاون الجزائر مع الصين في تطوير شبكة سكك حديدية حديثة بطول 6000 كيلومتر، لتعزيز حركة البضائع والركاب، وتحفيز النمو الاقتصادي في مختلف المناطق.
الجزائر بين الحاضر والمستقبل: رؤية تنموية شاملة
اليوم، تسير الجزائر بخطى ثابتة نحو بناء اقتصاد صناعي متكامل قائم على التكنولوجيا الحديثة والطاقة النظيفة، بدعم من شراكات دولية متجددة، خاصة مع الدول الإفريقية ودول البحر الأبيض المتوسط.
بوجود أكثر من 1450 مشروعًا صناعيًا قيد الإنجاز، تؤكد الجزائر أن المستقبل يحمل المزيد من النجاحات. وفي افتتاح المنتدى الاقتصادي الجزائري-الروسي، شدد الرئيس تبون على أن "الأفضل قادم"، في رسالة أمل وطموح تحفز كل الجزائريين على الاستمرار في طريق النهضة.