تخطو مصر بخطى واثقة نحو التحول إلى قوة طاقوية كبرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بفضل الاكتشافات النفطية والغازية الضخمة التي تم الإعلان عنها مؤخرًا في خليج السويس ومنطقة البحر المتوسط. هذه الاكتشافات قد تغيّر المعادلة الاقتصادية والسياسية في البلاد، وتمنح القاهرة فرصة تاريخية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، وربما التحول إلى مُصدّر رئيسي للنفط والغاز في المستقبل القريب.
تأتي هذه الإنجازات في وقت يعاني فيه الاقتصاد المصري من ضغوطات كبيرة، نتيجة تراجع قيمة العملة المحلية وزيادة تكاليف الاستيراد، ما يجعل أي تطور في قطاع الطاقة أمرًا بالغ الأهمية لتحسين الميزان التجاري وتوفير العملة الصعبة. وقد كشفت وزارة البترول المصرية عن اكتشاف بئر نفطي جديد في خليج السويس يُعرف باسم "GNN-11"، بطاقة إنتاجية تجاوزت 2500 برميل يوميًا، ليضاف إلى سلسلة من الاكتشافات الهامة في المنطقة ذاتها. ومن المتوقع أن تساهم هذه الاكتشافات في رفع إنتاج مصر من النفط الخام، الذي بلغ في النصف الأول من العام نحو 548 ألف برميل يوميًا.
ولا تقتصر جهود القاهرة على النفط فقط، بل تشمل الغاز الطبيعي أيضًا، حيث تعمل على تعزيز مكانتها كمركز إقليمي لتصدير الغاز المسال، مستفيدة من موقعها الجغرافي المميز وبنيتها التحتية الحديثة، مثل منشآت الإسالة في دمياط وإدكو. ورغم اعتماد مصر النسبي على الغاز المستورد من إسرائيل بموجب عقود طويلة الأجل، فإن الحكومة المصرية تواصل تنفيذ خطط طموحة لتطوير حقول الغاز المحلية، خاصة حقل ظهر العملاق في البحر المتوسط، الذي يُعد أحد أكبر الاكتشافات البحرية في العالم.
من جهة أخرى، تسعى مصر جاهدة لزيادة استثمارات الشركات العالمية في قطاع النفط والغاز، حيث أعلنت شركتا شل وكايرون عن ضخ استثمارات إضافية بقيمة 340 مليون دولار لتطوير أصول الغاز في البحر المتوسط وآبار النفط في خليج السويس، بما يعزز الإنتاج المحلي ويدعم خطط القاهرة لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
وفي السياق ذاته، تشهد قدرات مصر في مجال تكرير النفط تطورًا ملحوظًا، حيث تم الانتهاء من مشروع توسعة مصفاة ميدور بالإسكندرية، كما تخطط الحكومة لتوسعة مصفاة مسطرد لتحسين نوعية المنتجات النفطية وتقليل الحاجة إلى الاستيراد. وتهدف هذه المشروعات إلى زيادة كفاءة الإنتاج وتقليص العجز الكبير في الميزان التجاري البترولي، الذي بلغ 2.57 مليار دولار في الربع الثاني من عام 2024.
ولا تتوقف خطط الطاقة المصرية عند النفط والغاز فقط، بل تمتد إلى الطاقة المتجددة، حيث تضاعفت قدرات توليد الكهرباء من مصادر الرياح والطاقة الشمسية خمس مرات بين عامي 2013 و2022، وهو ما يعكس حرص الدولة على تنويع مصادر الطاقة، وتقليل الانبعاثات الكربونية، وتحقيق التنمية المستدامة.
رغم هذه التطورات المشجعة، يظل هناك العديد من التحديات، أهمها ضرورة مواجهة الضغوط الإسرائيلية المرتبطة باتفاقات الغاز، وضمان استمرار الاستثمارات الأجنبية، وتحقيق الاستقرار في سوق الطاقة المحلية. كما تواجه مصر تحديًا إضافيًا يتمثل في تحقيق التوازن بين تلبية احتياجاتها الداخلية المتزايدة من الطاقة، وبين تصدير الفوائض لتحقيق عوائد مالية مستدامة.
إن مصر اليوم تقف على أعتاب مرحلة جديدة، قد تجعلها في مصاف الدول الكبرى المصدرة للطاقة في المنطقة، خاصة إذا ما نجحت في تطوير اكتشافات جديدة، وتحسين كفاءة الإنتاج، وتعزيز استثمارات قطاع الطاقة، بما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني، ويوفر ملايين فرص العمل للمصريين.
فهل تنجح القاهرة في تحقيق هذا الحلم الطاقوي الكبير؟ هذا ما ستجيب عنه السنوات القليلة القادمة، مع بدء تشغيل المشروعات الكبرى، وتزايد الاكتشافات في مناطق الامتياز المختلفة، خاصة في خليج السويس والبحر المتوسط. ومهما كانت النتائج، فإن ما يحدث الآن يؤشر بوضوح إلى أن مصر قد دخلت بالفعل عصر الطاقة الجديد بكل قوة وثقة.