في ظل التحديات المائية المتزايدة التي تواجهها الجزائر، تبرز مشاريع تحلية مياه البحر كأحد أهم الحلول الاستراتيجية لتحقيق الأمن المائي وضمان استدامة الموارد الحيوية في البلاد. فقد دفع النقص الحاد في المياه العذبة، نتيجة التغيرات المناخية والجفاف وتزايد الطلب السكاني، الحكومة الجزائرية إلى تبني برنامج ضخم لتحلية مياه البحر، يهدف إلى توفير مصدر دائم وآمن للمياه الصالحة للشرب، خاصة في المناطق الساحلية ذات الكثافة السكانية العالية.
تُعد مشاريع تحلية المياه في الجزائر جزءًا من خطة وطنية شاملة تعكس رؤية واضحة نحو المستقبل، حيث يجري العمل على إنشاء خمس محطات كبرى على امتداد الساحل الجزائري، بطاقة إنتاجية إجمالية تصل إلى مليون ونصف متر مكعب يوميًا. وتُوزع هذه المشاريع الحيوية على ولايات وهران، بومرداس، الطارف، تيبازة، وبجاية، في محاولة لتغطية الاحتياجات المائية لملايين المواطنين، وضمان الاستقلال المائي للبلاد بعيدًا عن المصادر التقليدية التي أصبحت مهددة.
محطة رأس الأبيض في ولاية وهران تُعد واحدة من هذه المحطات العملاقة، بطاقة تصل إلى 300,000 متر مكعب يوميًا، ما يجعلها ركيزة أساسية في تأمين مياه الشرب لولايات الغرب الجزائري مثل وهران، معسكر، سيدي بلعباس، وعين تموشنت. وقد زُودت هذه المنشأة بتقنية التناضح العكسي الحديثة، التي تضمن جودة مياه عالية مع الالتزام بالمعايير البيئية.
وفي وسط الجزائر، برز مشروع محطة رأس جنات في بومرداس كأحد أهم المشاريع لتلبية احتياجات ولايات الجزائر العاصمة، بومرداس، وتيزي وزو، حيث تبلغ طاقتها الإنتاجية 300,000 متر مكعب يوميًا أيضًا، في وقت تسارع فيه الحكومة الخطى نحو إنهاء المشروع بهدف مواجهة الطلب المتزايد على المياه في هذه المناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
أما في الشرق الجزائري، فقد جاءت محطة كدية الدراوش في ولاية الطارف لتلعب دورًا محوريًا في حل أزمة المياه التي تعاني منها ولايات الطارف، عنابة، قالمة، وسوق أهراس. ومع طاقة مماثلة للمحطات الأخرى، تمثل هذه المنشأة ركيزة إضافية لضمان استقرار الإمدادات المائية، خاصة أن المنطقة الشرقية تعتمد بدرجة كبيرة على المياه الجوفية والسدود التي تأثرت سلبًا بالتغيرات المناخية الأخيرة.
من جهتها، تساهم محطة فوكة 2 في ولاية تيبازة في دعم احتياجات ولايات الجزائر الوسطى، بما في ذلك العاصمة وضواحيها، إذ ستوفر 300,000 متر مكعب يوميًا عند دخولها مرحلة التشغيل الكامل بحلول فبراير 2025، بينما تتواصل أشغال الإنجاز بنسبة قاربت 90%.
ولم تغفل الجزائر المنطقة الشرقية، إذ تقام محطة تيغرنة في بجاية لتلبية احتياجات سكان الولاية والمناطق المجاورة، وسط تقدم كبير في الأشغال، مع توقعات ببدء الإنتاج في وقت قريب. وتعكس هذه المحطة التوجه نحو الاعتماد على الكفاءات المحلية في مجال تحلية المياه، وتقليل الحاجة إلى الخبرات الأجنبية.
تمثل هذه المشاريع مجتمعة تحولًا نوعيًا في سياسات إدارة المياه في الجزائر، خاصة في ظل الاعتماد المتزايد على حلول غير تقليدية لمواجهة أزمة المياه العالمية. وتخطط الحكومة لتشييد ست محطات إضافية بعد اكتمال هذه المشاريع الخمس، ما يؤكد التزام الدولة بتحقيق الاكتفاء الذاتي المائي، ودعم القطاعات الحيوية كالزراعة، الصناعة، والسياحة.
ومع أن هذه المشاريع تطرح تحديات متعلقة بالتكاليف المرتفعة واستهلاك الطاقة، إلا أن الحكومة الجزائرية تسعى إلى تذليل هذه العقبات من خلال التوجه نحو مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية والرياح، لتشغيل محطات التحلية، وتقليل الأثر البيئي الناتج عن التخلص من المياه المالحة.
إن مشاريع تحلية مياه البحر ليست مجرد حل ظرفي لأزمة مياه مؤقتة، بل هي جزء من رؤية استراتيجية بعيدة المدى نحو ضمان الأمن المائي للأجيال القادمة، في وقت باتت فيه معظم دول العالم تسابق الزمن لتأمين مصادر بديلة للمياه في ظل تصاعد تأثيرات التغيرات المناخية. فهل ستنجح الجزائر في هذا الرهان؟ هذا ما ستكشفه الأعوام المقبلة، مع دخول هذه المحطات الخدمة تدريجيًا وتحقيق نتائجها المنتظرة على أرض الواقع.