صناعة السيارات في الجزائر: بوصلة جديدة نحو صناعة وطنية تنافسية
في مشهد يعكس تحولاً حقيقياً في المشهد الصناعي الجزائري، تصنع الجزائر اليوم ثورة في قطاع صناعة السيارات، تنطلق عبر طريق متعرج مليء بالتحديات، لكنها تمضي بخطى حثيثة نحو بناء صناعة محلية قوية قادرة على المنافسة الإقليمية والدولية. هذا القطاع الذي كان يومًا ما حكراً على الاستيراد، بات يشهد جهودًا مكثفة لتوطين الصناعة وخلق فرص عمل جديدة، في مواجهة أزمة اقتصادية وضغوط على موارد الدولة.
البداية والنشأة: من استيراد السيارات إلى إنتاجها
انطلقت صناعة السيارات في الجزائر بشكل رسمي عام 2012، حين وقعت الحكومة شراكة مع شركة "رينو" الفرنسية لإنشاء أول مصنع تجميع في ضواحي وهران. تبعتها خطوات مماثلة من شركات عالمية أخرى مثل "هيونداي" الكورية الجنوبية التي افتتحت مصنعًا في تيارت عام 2016، و"فولكس فاجن" الألمانية التي بدأت نشاطها في غليزان عام 2017. هذه المصانع مثّلت بدايةً لتحول جذري في سوق السيارات المحلي الذي كان يعتمد كلياً على الاستيراد.
أزمة "نفخ العجلات" وتداعياتها
رغم البداية الواعدة، واجه القطاع عدة أزمات خاصة بعد عام 2014، عندما فرضت الحكومة شروطًا صارمة على استيراد السيارات من حيث السلامة والجودة، ما أدى إلى إغلاق عدد كبير من مراكز البيع والوكلاء، وانخفاض حاد في عدد السيارات المعروضة. أدى ذلك إلى انخفاض عرض المركبات من 400 ألف وحدة إلى 100 ألف فقط بحلول 2016، مما تسبب في ارتفاع الأسعار وشح في السوق، مع تراجع قيمة الدينار أمام العملات الأجنبية.
هذا الوضع أظهر نقاط ضعف في صناعة التجميع المحلية التي كانت تعتمد بشكل شبه كامل على استيراد قطع الغيار، وأدى إلى ظهور ظاهرة "مصانع نفخ العجلات" التي اكتفت بتركيب القطع المستوردة دون تصنيع حقيقي، وهو ما أثار انتقادات واسعة وأدى إلى محاكمات فساد عقب سقوط نظام بوتفليقة.
عهد جديد مع تبون: نحو صناعة حقيقية
مع تولي الرئيس عبدالمجيد تبون زمام الأمور، أعلنت الحكومة توجهها إلى إعادة هيكلة قطاع السيارات بالكامل، عبر فرض شروط جديدة تتطلب نسبة إدماج محلي لا تقل عن 30% في المركبات المصنعة. كما أُغلقت خطوط إنتاج لشركات كبرى مثل "فولكس فاجن" و"كيا" بعد فشلها في التكيف مع هذه القواعد.
يأتي هذا التوجه في سياق جهود التنويع الاقتصادي ومحاولة تقليل الاعتماد على النفط، مع دعم مشروعات تصنيع حقيقية تُعزز من القدرات الصناعية الوطنية وتحقق اكتفاء ذاتيًا جزئيًا.
خطوات نحو المستقبل: الاستثمار في السيارات الكهربائية والشراكات الدولية
تشهد الجزائر اليوم دخول علامات تجارية جديدة من الصين وألمانيا وإيطاليا، مع توقعات بزيادة كبيرة في إنتاج السيارات، حيث وقعت الحكومة اتفاقية مع "فيات" الإيطالية لبناء مصنع ينتج 90 ألف سيارة سنويًا في وهران، ويجري التفاوض مع شركات يابانية للاستثمار.
وفي إنجاز نوعي، نجحت الجزائر في تصنيع أول سيارة كهربائية بمكونات محلية 100%، بدعم من مركز البحث في التكنولوجيا الصناعية، مع إنشاء 20 محطة شحن كهربائية في البلاد، مما يضع الجزائر على طريق صناعة السيارات الحديثة المستدامة.
تحديات وفرص: هل تحقق الجزائر أهدافها؟
يحتاج السوق الجزائري إلى حوالي 300 ألف سيارة جديدة سنويًا لتلبية الطلب المحلي المتزايد. يبقى التحدي الأكبر هو بناء سلسلة إنتاج متكاملة تعتمد على الإدماج المحلي وتحسين نوعية التصنيع، مع مكافحة الفساد وتهريب السيارات المستعملة، وتحسين البنية التحتية الصناعية.
إذا تمكنت الجزائر من تخطي هذه العقبات، فإنها ستضع نفسها كقوة إقليمية حقيقية في صناعة السيارات، قادرة على المنافسة مع الجارة المغرب والدول الأخرى في المنطقة، وتقديم نموذج ناجح للتنمية الصناعية العربية.