في ظل الأزمات الدولية المتصاعدة والتحولات الجيوسياسية المتسارعة، وجدت الجزائر نفسها في موقع استراتيجي غير مسبوق جعل منها لاعبًا محوريًا في معادلة الطاقة والسياسة الإقليمية والدولية. لم تعد هذه الدولة المغاربية مجرد مصدر تقليدي للغاز الطبيعي، بل أصبحت ورقة أساسية في حسابات أوروبا الباحثة عن بدائل للطاقة الروسية بعد الحرب الأوكرانية، وفي الوقت نفسه، نجحت الجزائر في توظيف هذه الورقة لتعزيز موقفها الدبلوماسي والسياسي في المنطقة وعلى الساحة العالمية.
خريطة الغاز العالمية تغيّرت بشكل دراماتيكي مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتحوّلت أنظار العواصم الأوروبية إلى الجنوب، حيث الجزائر تملك ثالث أكبر احتياطي للغاز في إفريقيا، وشبكة أنابيب استراتيجية تصل مباشرة إلى أوروبا عبر تونس وإيطاليا (خط ترانسميد)، وإلى إسبانيا عبر خط "ميدغاز" الذي تحوّل بالكامل إلى مسار بحري بعد الأزمة الدبلوماسية مع المغرب. هذه التطورات رفعت من صادرات الغاز الجزائري إلى 56 مليار متر مكعب في 2022، بزيادة 12% عن العام السابق، ما وضع البلاد في موقع المورّد الأول لإيطاليا بعد توقيع اتفاق لتصدير 9 مليارات متر مكعب إضافية سنويًا.
ولم تقتصر تحركات الجزائر الغازية على أوروبا فقط؛ إذ وقّعت اتفاقيات استراتيجية مع ألمانيا وسوناطراك لتزويد السوق الألمانية بنحو 8% من احتياجاتها بحلول 2025، وأعلنت عن بناء محطة تسييل غاز جديدة بولاية جيجل بقدرة 6.5 مليون طن سنويًا، تمهيدًا لدخول السوق الآسيوية بقوة.
الغاز لم يعد مجرد سلعة تصديرية، بل أصبح ورقة ضغط سياسي واضحة؛ فقد أعلن وزير الطاقة محمد عرقاب أن الجزائر لن تمد الغاز إلا لمن يحترم سيادتها وتوازناتها، في إشارة مبطنة إلى الأزمة مع إسبانيا عقب دعمها للموقف المغربي في ملف الصحراء.
على الصعيد الدبلوماسي، تسير الجزائر على خيط رفيع من التوازن بين الشرق والغرب. فعلاقتها مع روسيا تعززت بتوقيع صفقات تسليح قيمتها 7 مليارات دولار شملت طائرات سوخوي ومنظومات دفاع جوي متطورة، كما دعمت موسكو مساعي الجزائر للانضمام إلى مجموعة "البريكس". أما الصين، فقد ضاعفت استثماراتها بأكثر من 10 مليارات دولار في مشاريع البنية التحتية والطاقة والذكاء الاصطناعي، وضمّت الجزائر رسميًا إلى مبادرة "الحزام والطريق".
وفي المقابل، ورغم التوترات التقليدية مع فرنسا، خاصة بسبب قضايا الذاكرة والهجرة، تعززت علاقة الجزائر بإيطاليا التي أصبحت شريكها الأوروبي الأول، حيث وقع الطرفان أكثر من 30 اتفاقية خلال عامين، مما جعل روما تصف الجزائر بأنها "مرساة الاستقرار في المتوسط".
إفريقيًا، بدأت الجزائر توجه اهتمامها جنوبًا لتعويض تراجع النفوذ الفرنسي، إذ استضافت قمة ثلاثية مع مالي والنيجر، وافتتحت خمس قنصليات جديدة في دول الساحل والصحراء، ضمن رؤية تهدف لتوسيع نفوذها في العمق الإفريقي.
أما مع المغرب، فالخلاف لا يزال عميقًا بعد قطع العلاقات في 2021، مع إغلاق المجال الجوي وتجميد كل الاتصالات السياسية، ما يعكس تمسك الجزائر برفض التطبيع مع إسرائيل وتقديم نفسها كمدافع عن القضية الفلسطينية، وهو موقف يعزز شعبيتها في العالم العربي.
داخليًا، شرعت الجزائر في خطة تحديث اقتصادي طموحة بقيمة 90 مليار دولار حتى 2027، تشمل توسيع الطرق والموانئ وتطوير البنية التحتية في ولايات الجنوب الغني بالمعادن الإستراتيجية، مثل الليثيوم والفوسفات. كما شهد القطاع الزراعي نموًا كبيرًا، وتضاعفت المساحات المزروعة بنسبة 75%، ضمن خطة لتحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي.
وفي مجال ريادة الأعمال، ارتفع عدد الشركات الناشئة إلى أكثر من 6000 شركة في 2024، خاصة في مجالات التكنولوجيا والطاقة الخضراء، مما يشير إلى تحول تدريجي في الهيكل الاقتصادي بعيدًا عن الريع النفطي.
إن الجزائر اليوم لا ترسم فقط خطوط أنابيب الغاز، بل تعيد رسم خارطتها السياسية والاقتصادية، وتثبت للعالم أنها قوة صاعدة في شمال إفريقيا، تصوغ مستقبلها بعيدًا عن التبعية لأي محور عالمي، مستفيدة من مواردها، موقعها الجغرافي، وحنكتها الدبلوماسية.
بهذا التموضع الجديد، تؤكد الجزائر أنها لم تعد مجرد مزود للطاقة، بل دولة تلعب دورًا رئيسيًا في توازنات المتوسط وإفريقيا وأوروبا، وتحاول فرض رؤيتها في عالم متغير يعاد تشكيله من جديد.